فصل: تفسير الآيات (63- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (63- 72):

{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}
الغمرة: الجهالة والغفلة. من دون ذلك: من غير ذلك. المترف: صاحب النعمة الكثيرة الذي يستعملها في غير موضعها. يجأرون: يصيحون. تنكصون: تدْبرون وتعرِضون عن سماعها، وأصل النكوص: الرجوع إلى الخلق. سامرا تهجرون: تسمرون بالليل بالكلام القبيح والطعن في القرآن. به جنة: مجنون. الحق: من الالفاظ المشتركة لها عدة معان. فالحق هو الله، والحق: هو القرآن، والحق: الدين كله بما فيه القرآن، والمراد به هنا: الله. أتيناهم بذكرهم: بالقرآن الذين هو فخرهم. فهم عن ذكرهم معرضون: فهم معرضون عن فخرجهم. الخروج والخراج: الجعل والأجر.
{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}.
بعد أن ذكَر الله تعالى سماحةَ هذا الدين، وأنه لا يكلِّف أحداً الا بما يُطيق، وان كل عملٍ يعمله الإنسان مسجّل عليه في كتاب محفوظ، ثم بين صفات المؤمنين من الإيمان بالله، والمسارعة إلى الخيرات، وما ينتظرهم من الجزاء يوم القيامة- بيّن هنا أن المشرِكين بسبب عنادِهم وغيِّهم في غفلةٍ عن كل هذا، ولهم اعمالُ سوءٍ أخرى من فنون الكفر أو الطعن في القرآن والرسول الكريم.
{حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ}
فإذا حلّ بهم بأسُنا وأوقعنا العذابَ بالأغنياء المترفين يومَ القيامة صاحوا واستغاثوا، فنقول لهم: لا تصرخوا ولا تستغيثوا، فلن ينصركم أحدٌ من عذابنا ولن تجِدوا من يُغيثكم في هذا اليوم العظيم. والتعبير بإذا للشيء المحقق، وإنْ للشك.
{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}
ان هذا الصراخَ لن يفيدّكم لأنكم فَرَّطتم في الدنيا، وقد جاءتكم الآياتُ والنذُر على لسان رسُلي فلم تستمعوا لها، وكنتم تُعرِضون عنها ولا تسمعون لها.
{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ}.
كنتم في غعراضِكم وتولّيكم عن آياتي متكبرين، وتسمرون حول الحَرَم وتتناولون القرآنَ والرسولَ الكريم بهُجْرِ القولِ وقبيح الألفاظِ والطعن في الدين.
ثم أَنّبهم على ما فعلوا، وبيّن أن إقدامهم عليه لابد ان يكون لأحدِ أسباب أربعة فقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}
1- أجهِلَ هؤلاء المعرِضون فلم يتدبروا القرآنَ ليعلموا أنه حق، وما يحتوي عليه من تشريع وتهذيب للنفوس، وما فيه من فضائلَ وآدابٍ وأخلاق.
2- أم كانت دعوةُ محمد صلى الله عليه وسلم غريبةً عن الدعوات التي جاءت بها الرسلُ الكرام إلى الأقوام السابقين.
3- أم لم يعرفوا رسولَهم محمداً عليه الصلاة والسلام الذي نشأ بينهم، وما كان يتحلّى به من صدقٍ وأمانة (وكانوا يسمونه: الأمين) فهم ينكِرون دَعْوته حسداً منهم وعنادا.
4- ام يقولون: انه مجنون؟ فلايدري ما يقول، وهم أعلم الناس به!
وبعد أن عدّد سبحانه هذه الوجوه، ونبه إلى فسادها، بين وجه الحقّ في عدم إيمانهم فقال: {بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}.
كلا: إنه جاءهم بالدين الحق، لكن اكثرهم كارهون للحق، لأنه يخالف شهواتِهم واهواءهم فهم لا يؤمنون به، وذلك لأنه يسلبُهم زعاماتهم والقيم الباطلةَ التي يعيشون بها، فالدفاع عن مصالحهم هو الذي يتستّرون فيه. ومثل هؤلاء كثيرون في الوقت الحاضر يتخذون الدين ستاراً لزعاماتهم ومنافعهم.
ثم بين الله ان اتّباع الهوى يؤدي إلى الفساد الكبير فقال: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ}
ولو أن الله تعالى سايَرَ هؤلاءِ فيما يشتهونه ويقترحونه، لفسَدَ هذا النظامُ العظيم الذي نراه في السموات والأرض، واختلّ نظام الكون، وساد الظلمُ والفساد في الخلائق، ولكنّ الله ذو حكمةٍ عالية، وقدرة نافذة.
وبعد أن أنْبهم على كراهتهم للحق، ذكر أنه أعرضوا عن أعظم خيرٍ جاءهم فقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرُهم وشرفُهم، وهم مع ذلك معرِضون عن هذا الخيرِ العميم، والشرف العظيم، وكان قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44].
وهذا هو القول الحقّ، فإن العربَ قبل الإسلام لم تكن أمة متحدة، ولم يكن لها ذكر في التاريخ حتى جاءها الاسلام، فأصبحتْ بفضله تُذكر في الشرق والغرب، وظل ذِكرُها يدوّي في العالم قرونا طويلة. ولما تركت وحدتها ودينها وأعرضت عنه تضاءل ذِكرها وخبا نورها، ولن يقوم لها ذكر إلا برجوعها إلى الاسلام، والأخذ بالعلم، ووحدة الصف.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}
إنك أيها الرسول لا تسأهلم أجراً على أداء رسالتك، ان أجرَ ربك لك خيرٌ مما عندَهم، وهو خير الرازقين.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو نافع وعاصم: {أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير} كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي: {ام تسأهلم خراجا فخراج ربك} وقرأ ابن عامر {ام تسأهلم خرجا فخرج ربك خير}.

.تفسير الآيات (73- 80):

{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)}
ناكبون: زائغون، عادلون عن الرشاد. للجّوا: لتمادوا فيه. يعمهون: يتحيرون، يترددون في الضلال. استكانوا: خضعوا وذلوا. مبلسون: آيسون من كل خير. انشأ: خلق. ذرأكم في الأرض: خلقكم وبثكم فيها.
{وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
وأنت يا محمد على الحق الذي لا معدلِ عنه، وتدعو هؤلاء المشركين إلى الدين القيّم الموصلِ إلى السعادة الأبدية.
{وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ}.
ان الذين لا يصدّقون بك، ولا يؤمنون بالبعثِ بعد الموت، وبقيام الساعة، لَزائغون عن الحق، ومائلون عن النّهج القويم، وضالّون عن الطريق المستقيم.
{وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
لقد بلغوا في التمرّد والعناد حداً لا يُرجى معه صلاحهم، فلو رحمناهم وأزلنا عنهم ما نزل بهم من ضرر في أبدانهم وقحطٍ في أموالهم- لزادوا كفراً في طغيانهم يتردَّون في الضلال.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}.
ولقد عذّبناهم بأنواع كثيرة من العذاب منها قتلُ زعمائهم يوم بدر، والقحطُ الذي أصابهم، وغير ذلك- فما خضعوا لربهم وما تضرعوا، بل أقاموا على عُتُوّهم واستكبارهم.... لم ينفع معهم الإنذارُ ولا التحذير.
ثم بين الله عاقبة أمرِهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
حتى إذا جاء أمر الله، وجاءتهم الساعةُ ووقفوا بين يدي الله، وأخذَهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون- أيِسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
{وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ}
ثم يبين الله تعالى بعض ما أنعمَ على خلقه لعلّهم يتذكرون: كيف تكفرون بالله وهو الذي انشأ لكم السمعَ لتسمعوا الحق! والأبصارَ لتروا الكون وما فيه من عجائب! والعقولَ لتدركوا عظمته فتؤمنوا به! ومع كل هذه النعم فإنكم لم تشكروها ولم تؤدوا واجبها.
{وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}
وهو الذي خلقكم وبثّكم في هذه الأرض تستثمِرون خيراتِها، وإليه وحدَه تُحشرون يوم القيامة. وهو الذي يحيي ويميت، وبأمره وقوانينه يتعاقبُ الليلُ والنهار طولا وقصرا، فهل بعد كل هذه الدلائل، وهذه النعم تجحدون!!

.تفسير الآيات (81- 90):

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}
أساطير: أباطيل، والاحاديث العجيبة واحدها أسطورة، واسطار، واسطير. الملكوت: الملك، والتدبير. يُجير: يغيث. ولا يجار عليه: لا يعين أحدٌ منه احدا. تُسحَرون: تخدعون عن الحق، لأن السحر تمويه وتخييل وخداع.
{بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون....}
لم يعتبر المشركون بكل هذه الأدلّة الواضحة بل ولا تدبروا الحُجَج، بل قلّدوا أسلافَهم السابقين فقالوا مثل قولهم.
قالوامنكرين للبعث: أمنَ المعقول ان نُبعث بعد الموت، وبعد اننصير تراباً وعظاما! لقد وُعِدْنا هذا الوعد، ووُعد آباؤنا من قبلنا بذلك، وما هذا الكلام إلا من أساطير الأمم السابقة، ليس له أصلٌ من الصحة.
{قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ...} الآيات في هذه الآيات الثلاث يجادل اللهُ المنكرين للبعث ويبين اخطاءهم:
1- قل ايها الرسول: من الذي يملك الأرضَ ومن عليها من الناس وسائر المخلوقات، إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. إنهم ولا شك سيقرّون بالحقيقة ويقولون المالك هو الله. قل لهم حين يعترفون: أفلا تتذكرن فتعلموا أن من قَدَرَ على خلقِ هذا الكون لهو قادرٌ على إحيائكم وبعثكم!
2- ثم قل لهم ايضا: من هو ربُّ السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقرون ويقولون الله. قل لهم: أتعلمون ذلك ولا تتقون عقاب ربكم!!
3- وبعد أن أقرّوا بأن هذا الكون جميعه مِلك له تعالى بيَّن لهم جلّ جلاله أن تدبير هذا الملك الواسع بيده، وانه مالك كل شيء، فهو المدّبر لنظام العالم بأجمعه، له الحكم المطلق في كل شيء، وهو يحمي بقدَره من يشاء، ولا يمكن لأحد ان يجير أحداً من عذابه. ثم أجاب عن هذا السؤال قبل ان يجيبوا فقال: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ}.
إنهم سيقرون بالحقيقة ويقولون كل شيء لله، فقل لهم: إذنْ كيف تُخدعون وتُصْرَفون عن هذه الحقائق الثابتة، وتنصرفون عن طاعة الله!!
ثم بعد كل هذه الاسئلة والمحاورة يجيء التقريرُ الفاصل بقوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} لقد أتيناهم بالدين الحقّ على لسان رسولنا، وهم كاذبون في إنكار ذلك، وفي كل ما يخالف هذا الحق.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو: {سيقولون الله}. والباقون: {سيقولون لله}.

.تفسير الآيات (91- 100):

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}
الغيب: ما غاب عنا. الشهادة: الحاضر الآن. همزات الشياطين: وساوسهم. من ورائهم: من امامهم. برزخ: حاجز.
{مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}.
من الحقِّ الي جاء به الرسولُ الكريم من عند ربه معلَناً للناس كافة أن الله تعالى لم يلدْ ولم يولد ولم يتخذْ ولدا، ولم يشاركْهُ في الملك آلهٌ آخر، وبيّن ذلك بدليلين:
1- إذا لذهبَ كل إلهٍ ما خلق. يستقل كل اله بما خلقه، يصرّفُه حسب ما يريد، فيصبح لكلّ جزءٍ من الكون، أو لكل فريقٍ من المخلوقات- قانون خاص، ويحصل التباين في نظام هذا الكون... وهذا غير واقعٍ، فنظام الكون منسَّق منتظم {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3].
2- ولَعلا بعضُهم على بعض. ولحصَلَ خلافٌ كبير بين الإلهين، وقهر أحدُهم الآخر، وكل هذه الامور غير موجودة. على العكس فإن وحدةَ الكون ظاهرةٌ تشهد بوحدة مكوّنه، بوحدة خالقه، وكل شيء في هذا الكون يبدو متناسقاً منتظماً بلا تصادم ولا نزاع.
وبعد أن وضَح الحقّ وصار كفَلَقِ الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال: {سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ}
تنزه الله عما يقوله المشركون مما يخالف الحق. ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال: {عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
هو العالم بما غاب عن خلقه من الشاء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويعملونه، فليس لغيره نم خلْقٍ يستقلّ به، فتنزه اله عما ينسبُه الكافرون إليه من وجود الشريك.
ثم بعد أن يقرر هذه الحقائقَ يأمر رسلَه الكريم ان يتوجّه إليه، وان لا يجعله قريناً لهؤلاء المشركين، وأن يستعيذَ به من الشياطين، فلا تثور نفسُه، ولا يضيق صدره بام يقولون: {قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين}
قل: يا رب، إنْ عاقبتَهم وانا أشاهدُ ذلك فإني اسألك ان لا تجعلني مع القوم الكافرين. والرسولُ عليه الصلاة والسلام في منجاةٍ من أن يجعلَه الله مع القوم الظالمين حين يحلُّ بهم العذاب، ولكن هذا تعليمٌ له وللمؤمنين ان لا يؤمنوا مكر الظالمين، وان يظلّوا أبداً أيقاظا، يلوذون بحمى الله.
روى الإمام أحمد والترمذي «ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: واذا أردتَ بقومٍ فتنةً فتوفَّني غيرَ مفتون».
{وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}.
ان الله قادرٌ على أن يحقّق ما وعدَ به الظالمين في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. ولقد أراه بعضَ ما وعدهم في غزوة بدرٍ من قتلِ زعمائهم، وفي غزوة الفتح من النصر العظيم.
ثم أرشده إلى ما يفعل بهم إذا لحِقه أذاهم، وهو أن يصبر حتى يأتي امر الله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}
استمر يا محمد في دعوتك، وقابلْ إساءتهم بالتي حي أحسن، ومن العفو والصبر والتجاوز عن جهلهم... نحن أعلمُ بما يصفوننا به، وبما يصفون دعوتك من سوء وافتراء، وسنجازيهم عليه.
رُوي عن أنس رضي الله عنه: «يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنتَ كاذباً فإني أسأل الله ان يغفر لك، وان كنتَ صادقاً فإني أسأل الله ان يغفر لي».
ولمّا أدّب الله رسولَه الكريم بأن يدفع بالحسنى أرشده لى ما يقوى به على ذلك، من الاستعاذة من هَمزات الشياطين.
{وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ}
وقل أيها الرسول: يا رب، إني ألتجيء اليك من أثر وساوسِ الشياطين، وان يبعثوا إليَّ أعدائك لإيذائي، وان يكونوا بعيدين عني في جميع أعمالي، ليكون عملي خالصاً لوجهك الكريم.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمور بن شعيب عن ابيه عن جده قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كلماتٍ نقولها عند العزم خوف الفزع: بسم الله، اعوذ بكلماتِ الله التامة من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون».
ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين قُربِ الوفاة، ومعاينة المصير من سؤال الرَّجعة إلى الدنيا ليُصلحوا ما كانوا أفسدوا حالَ حياتهم فقال: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
سوف يستمر هؤلاء المعاندون على كفرهم، حتى إذا حلّ موعد موتِ أحدهم، ورأى مصيره ندم وقال: يا رب، ردَّني إلى الدنيان لأعملَ عملاً صالحا فيما قصرّت فيه من عبادتك، وما تركت من مالي. ولكن هيهات، فقد فات الأوان، ولن يجاب إلى طلبه، وإنما هو كلام يقوله دون فائدة. إن أمامهم حاجزاً بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص: {عالمِ الغيب} بالجر. والباقون: {عالمُ الغيب} بالرفع، على تقدير هو عالم الغيب.